هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله قال (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُم)، (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) يعني أنه لو كانت المسألة في الحكم مبنية على مجرد الدعوى، فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء بين الناس، يأتي من يدعي مال غيره، بل، ويدعي دمه، إذا مات بأي طريقة، ادعي أن فلانا هو القاتل. ولو أعطي الناس بمجرد الدعوى، بلا بينة لحصل خلل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأنّ نفوس الناس مبنية على المشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، فقد ينتج من ذلك أن يدعي أناس أموال قوم ودماءهم.
فقال عليه الصلاة والسلام (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) يعني بلا بينة على ما ادعوا، (لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُم). وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض؛ ولهذا كان لزاما على المدعي أن يأتي بالبينة.
وعقَّب عليه كتفسير لذلك فقال عليه الصلاة والسلام (وَلَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)، قوله (البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي) (البَيِّنَةُ) اسم لكل ما يُبِينُ الحق ويظهره، على الصحيح المختار، فالبينات إذا كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي باختبار أيضا من البينات؛ فهم القاضي للمسألة باختبار، يختبر به الخصمين، فيظهر به له وجه الحق هذا من البينات.
فإذا البينات على الصحيح ليست منحصرة في أوجه من أوجه الثّبوت، بل هي عامّة في كل ما يُبين الحق، ويظهره، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمن له بينات تختلف أيضا، وتزيد عن الزمن الذي قبله، أو تختلف، فلا بد إذن في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس إلى آخره.
فإذا تقرر هذا، فالبينة في اللغة: اسم للبيان، وما يبين به الشيء، يقال له: بينة، وأرفع منها البرهان، وأرفع من البرهان الآية، وقد قال جل وعلا ﴿مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾[هود:53]، يعني ما جئتنا بشيء يُبِينُ أنك صادق في ذلك، يعني في دعوى النبوة، ودعوى الرسالة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وقال جل وعلا ﴿لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ(1)رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾[البينة:1-2]، فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأن البينةَ اسم لما يظهر الحق، ويدل عليه؛ فلهذا قيل للرسول إنه بينة، وللكتاب إنه بينة، وللشاهد إنه بينة، وهكذا. فالبينة إذن على التحقيق أنها اسم عام جامع لكل ما يُبِينُ الحق، ويظهره.