والقسم الثاني: نفى الضرر شرعا في أمور المعاملات والأمور الاجتماعية؛ يعني من النكاح، وتوابعه إلى آخره، وهذه كلها أيضا في تشريعات الإسلام نفى فيها الضرر، يعني من جهة التشريع، فقال جل وعلا مثلا، في بيان العلاقة الزوجية، قال ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾[البقرة:231]، وقال في الرضاعة ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾[البقرة:233]، وقال جل وعلا في الوصية ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾[النساء:12] فإذن في أحكام الشريعة جاء نفي الضرر في نفس الأحكام، وهذا من جهة الشارع، القسم الثاني -أو النوع الثاني من القسم الثاني-؛ يعني في المعاملات، أنه طُلِبَ بهذا النص نفي الضرر والضرار من العباد؛ يعني أن العبد أيضا إذ نفي وجود الضرر والضرار شرعا، فهم أيضا لا يجوز لهم أن يسعوا في الضرر، ولا في الضرار؛ لأن هذا منفي شرعا. فتحصل لنا أن دخول هذا النفي (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) في المعاملات رجع إلى جهتين،
الجهة الأولى: جهة التشريع.
والجهة الثانية: جهة المكلَّف، فالمكلَّف لا يسعى في شيء فيه ضرر ولا ضرار؛ لأن الله جل وعلا نفى وجود الضرر شرعا بقول المصطفى (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ).
إذا تبين هذا فما معنى الضرر؟ وما معنى الضرار؟ اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وفي الفرق ما بين الضرر والضرار:
فمنهم من قال: إن الضرر والضرار واحد، لكن كرر للتأكيد، فالضرر والضرار بمعنى واحد، وهو إيصال الأذى للغير.
وقال آخرون من أهل العلم: الضرر والضرار مختلفان، فالضرر هو الاسم، والضرار هو الفعل، يعني نفي وجود الضرر، ونفي فعل الضرر، فيكون على هذا القول، الأول: متجه إلى الشرع بعض الضرر في الشريعة. والثاني: متجه إلى المكلف، فلا فعل للضرر والإضرار مأذون به شرعا. ويؤيد هذا بأنه جاء في بعض الروايات (لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضِرَارَ) يعني بالغير.
وقال آخرون من أهل العلم وهو القول الثالث: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير، بما فيه منفعة للمُوصل، والضرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه؛ يعني أن الضرر على هذا القول، هو أن تُضِرَّ بأحد لكي تنتفع، فإذا وصله ضرر؛ أذى معين، انتفعت أنت بذلك إما في الأمور المالية، أو غيرها، والنوع الثاني-الذي هو الضرار- أن توصل الأذى نسأل الله العافية دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة ابن الصلاح، وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور منها:
أن فيه تفريقا بين الضرر والضرار، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.
والثاني: أن لفظ الضرر يختلف عن لفظ الضرار، في أن الضرر ظاهر منه أنَّ الموصل لهذا الضرر منتفع به، وأما المُضَارّ بالشيء، فإنه غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا أيضا يعني من جهة اللغة بين.
ومنها أيضا يعني مما يترجح به هذا المعنى أن الأفعال مختلفة، لا ضرر ولا ضرار إذا انتفى في الشرع؛ يعني أنه لن يصل الأذى إلى المكلف، أو نفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعا، وهذا يتضح مع تقسيم يأتي.