هذا الحديث -حديث ابن مسعود- فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بحقوق ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام (لاَ يَحِلُ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ) وقوله (لاَ يَحِلُ) يعني يحرم، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق؛ ولهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض» فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم، وقتلَه بغير حق من خصال أهل الكفر، وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» وهذا يدلّ على أن من سعى في قتل المسلم، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار، قال: «فالقاتل والمقتول في النار» وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة، مؤاخذة المسلم بهمِّه، وما جاء في الحديث «إذا هَمَّ عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه» والحديث الآخر أيضا الذي في الصحيح «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم»؛ لأنّ هذا الحديث الذي هو «القاتل والمقتول في النار» المقتول وإنْ لم يفعل فهو في النار؛ لأنه قد سعى في الأسباب، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري، فيدل هذا على أنّ من سعى في أسباب القتل، أو في أسباب المحرّم، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يُعتبر كفاعلها من جهة الإثم، بل إنّ الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني من جهة الإثم، وهذا ظاهر من الأدلة، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (لاَ يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم، وقوله (دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ) هنا قال (مُسْلِمٍ)، والمقصود بالمسلم هو الذي حقق الإسلام، يعني أصبح مسلما على الحقيقة، لا على الدعوة، يعني من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بالتوحيد، أما المشرك الشرك الأكبر والمبتدع البدعة المكفرة المخرجة من الدين وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث، ولا في غيره؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد؛ يعني بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك، وكونه لم يرتكب مكفرا، ولا شركا أكبر، قال(إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) وهذا استثناء أو يسمى حصرا؛ لأنه استثناء بعد النفي، والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر، وقوله عليه الصلاة والسلام في أولها (لاَ يَحِلُّ) أتى على النفي، ومجيء النفي يدل على النهي، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي، يعني كأنه صار حقيقة ماضية، أنه لا يحلّ، بحيث إن النهي عنه قد تقرر، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا، وله نظائر كقوله)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ([الواقعة:79] وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه.