ليلة دافئةٌ رائقةٌ قريرةٌ هادئة، قبةٌ مزدانة بنجومٍ تغمز بين الآن والآن في غنج، قمرٌ متوكئٌ سماءه تحوطه هالةٌ من فضة، واليوم، الخميس، عطلة نهاية الأسبوع، والناس تعج بهم الشوارع، والجلبة تصدح في أجواز الفضاء مؤذنة بإشعال الأفراح، البيوت مقفرة من أهلها، والكل ثمل بالسرور، سكران بنشوة السعادة.
حادي الفرح ينشد(يا مال الشام يالله يا مالي .. طال المطال يا حلوة تعالي)
السرادق قائمٌ كباب السعير، الزبانية منتصبون لاستقبال المهنئين والمدعوين، الشيطان في أزهى حلله، يشع من عينيه وهج الحبور العارم العاهر، الشيطانة غدت كحورية البحر جمالاً وبهاءً، فستان يبدي عن كتفيها وذراعيها، ويتكشف عن هاوية الثديين، يشفُ عن بطنها اللجينية، ويُظهِرُ جيدها كتحفةٍ من الرخام الملكي الأندلسي، وشعْرٌ من ماء الذهب مجتمع فوق الهامة يدعو إلى الفجور، سفحت الشيطانة دموع الجذل والبهجة، ضمتها أمها إلى صدرها بحنو، تكدر وجهها بالكحل السائح، أعادت أمها زواقها إلى ما كان عليه، هبطت بها إلى المدعوين، فُغرت الأفواه، وبحلقت الأعين، وكأن ملاكًا سقط من السماء.
في الطرف الآخر ثمة ملاك منتحٍ ركنًا منزويًا، ينكمش على نفسه كالقنفذ المتحفز خشيةً من خطرٍ محدق، وحيدًا مستوحشًا، كالحدث الخطأ في المكان الخطأ، وبعد هنيهات، اصطكت الأسنان وأطبقت الشفاه، وكأنما اعتادت المنظر الساحر للشيطانة، عدا ذلك الملاك الذي إلى فاهه المفغور وعينيه المشدوهتين، أسال دمعتين على خديه وكاد يصرخ، غير أن عجزًا حاق به، شللٌ كامل، صدمةٌ صيرته تمثالاً محنطًا، خطرت الشيطانة في زهوٍ وخيلاء تتبعها صبيتان غضتان ترفعان أهداب الثوب لئلا يتجعد.
قعَدَتْ بحيال شيطانها، تلامست يداهما وتلاصقت وكأنما هو رباط المأذون المقدس، في حين لبث الملاك منزويًا في مقتعده لا يبدل من صورته ولا يتكدر سطحه ولا بنسمة هافية حتى، وصوت الغناء يتعالى (يا مال الشام على بالي هواكِ..أحلى زمان قضيتوا معاكِ) وهنالك نهض المدعوون وانتظموا في دوائر "الدبكة" ، والملاك صنم رابض لا يتزحزح.
البسمة ترتحل من ثغر الشيطان لتلبد في ثغر الشيطانة، -لعنة الله على الكافرين-، وأخذ الملاكَ الفِكرُ وتجاذبت رأسَهُ الأخيلةُ والأوهام، وليس منها إلا ما يزيد النار ضرامًا، ويُلوع القلب والعقل، ويُفور الدم في مظانه.. ها هو الرمز، رمز الحب، يستحيل إلى شيطانة متجسدة على هيئة عروس، شيطانة لا تفقه للرحمة معنى، وتخايل له الماضي كسرابٍ في صحراء ماحلة، وما هي إلا أن تمثلها متمددة على ظهرها لاستقبال حكم الطبيعة، للتهليل بالقلم الكاتب الذي سيرويه مداد المحبرة، وسرعان ما اشمئز من هذا الهاجس، وعامت في سريرته الأقوال، (أيهبط الرمز من عليائه، ليغوص في وحل البشرية، وتطفح من حفرته السوائل كما يطفح من الأرض الماء)، وهمَ أن يقوم ليقتلها ويمثل بها، أوَ ليست شيطانة من بني إبليس، أوَ ليست مبعث آلامه، ومهد أوجاعه ؟! إن عينيها كانتا القاضي، وشفتيها كانتا النيابة، وخدها الأسيل قضى عليه بالسجن المؤبد، وشعرها نسج قضبانًا ونفذ الحكم.
وعلى الرغم من كل علله التي يعزوها إليها لم يزل عاشقًا هائمًا بها.
ود حينئذٍ لو يقطع الضوضاء ويصيح بصوتٍ يُشرِقُ من أغوار قلبه (إنها لي..إنها معشوقتي الأبدية..إنها شيطانتي المقدسة..أتنفصم روح عن جسد فيحيا ؟! أيُطفئ ضياء القمر فيشع)
وأخذته من عذاباته في جهنم همساتٌ خبطتْ باب أذنه الخلفي:
-يا سيد..أمن أهل العروس أم العريس؟!
(لعنك الله وقبحك..لستُ معك..لست معك)
-يا سيد..ألا تسمعني ؟!
(دعني..إليك عني..فلست جلِدًا..أخشى إن نطقتُ أن تفور عيناي كالنبع المتفجر)
-يا أخ ؟!
(ومن قال أن ثمة أخوة في عالم الذئاب والكواسر..اغرب ولْتُحرقك جهنم..آه..آه..وخزٌ يحفر في صدري)
-يا سيدي..أصاحٍ أنت أم ماذا ؟!
ثم هاتفًا في هلع:
-يا ناس الحقوا..هذا الرجل ليست ترمش عيناه..إنه هامدٌ كجثة..هامدٌ كجثة..