وقوله هنا عليه الصلاة والسلام (تَمْلأُ المِيزَانَ) على قاعدتنا: أنّ المَلْءَ هنا على ظاهره حسي وليس ملئا معنويا، كما قاله طائفة، وهذا نوع من التأويل؛ لأن الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوع من التأويل المذموم. فإذن نقول (”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ) على ظاهرها، وهو أن الله جل وعلا يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله جل وعلا يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال فيزنَها، فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات تكون في الميزان، فيثقل بها ويخف بها ميزان آخرين، فإذن على ظاهرها أن (”الْحَمْدُ اللهِ“) هذه تملأ الميزان. وهنا نظر أهل العلم في قوله(تَمْلأُ المِيزَانَ) لماذا صارت تملأ؟ على تفسيرين:
الأول: أن تملأ نفهم منه أنها لا توضع أولا؛ يعني لا يؤتى بالحمد أولا فتوضع في الميزان، وإنما الذي يؤتى به الأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بالحمد فتملأ الميزان، هذا تفسير.
والتفسير الثاني: أن الإيمان والدين نصفان: نصف تنزيه، ونصف إثبات الكمالات. والتنزيه فيه التسبيح، التنزيه تنزيه الرب جل وعلا عن النقص في ربوبيته، أو في إلهيته، أو في أسمائه وصفاته، إلى آخره. هذا فيه إبعاد عن النقائص، والحمد إثبات للكمالات، فإذا وضعت (سُبْحَانَ اللهِ) أولا فـ(الْحَمْدُ للهِ) تأتي ثانيا فتملأ الميزان، ونفهم من قوله عليه الصلاة والسلام «ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ, سُبْحَانَ اللّه وَبِحَمْدِهِ. سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ» أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان؛ فيكون الحمد تتمة لذلك. وقد يتأيد هذا بشيء، وهو أن التسبيح -المعاني يطول ذكرها، لكن نذكر بعض فائدة- يختلف عن الحمد، وهو أن التسبيح فيه تَخْلِيَة، ومعلوم أن التخلية بلا شيء يوضع محلها أنها ليست محمودة، بمعنى أنه إذا قال أحد: أنا سأخلي هذا المسجد مما فيه من الأشياء، والدواليب والفرش ونحو ذلك. لم يكن محمودا بفعله، إلاّ إذا قال وآتي بغيره مما هو أحسن منه فأضعه فيه. فالتسبيح تنزيه، والتنزيه قد يكون ناتجا عن قُصور في إثبات الكمالات لله جل وعلا فيقول: إن الله جل وعلا منزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ومنزه عن كذا. ثم لا يصفه جل وعلا بشيء؛ فلهذا كان التسبيح والحمد متكاملان، فالتسبيح تخلية، والحمد بالنسبة للقلب تَحْلِية، والتخلية تسبق التحلية كما هو مقرر في علوم البلاغة.